الجمهورية القرغيزية والمشهد الجيوسياسي المتغير: دبلوماسية نشطة ونظام دولي جديد

التحليل Загрузка... 15 مايو 2025 09:06
478.webp

بيشكيك، 15 مايو 2025. / قابار /

يُعزى التدهور الحاصل في العلاقات الدولية إلى تراجع النظام العالمي القديم، مما أدى إلى أزمات متعددة الأوجه، شملت صراعات مسلحة وحروبًا تجارية في مختلف أنحاء العالم. وفي ظل هذا الواقع، تتبلور بنية جديدة للعلاقات الاقتصادية والأمنية العالمية تحت تأثير مراكز متعددة للقوة والنمو. وبدون مواربة، تمرّ البشرية اليوم بمرحلة اضطراب وتحولات عميقة تقود نحو نظام عالمي جديد يتسم بالاستقرار والوضوح، ويقوم على مبادئ الاحترام المتبادل، والثقة، والأمن غير القابل للتجزئة.

وفي هذا السياق، يُعدّ الانخراط النشط في الشؤون الخارجية أمرًا منطقيًا وضروريًا، وهو ما تجسده بوضوح الجمهورية القرغيزية، حيث يقوم رئيس الدولة سنويًا بعشرات الزيارات والمشاركات في القمم المتعددة الأطراف، في حين تستقبل العاصمة بشكيك رؤساء دول ووفودًا من مختلف أنحاء العالم. ويتطلب هذا الواقع جهودًا دبلوماسية مكثفة للدفاع عن المصالح الوطنية في نظام دولي جديد.

تتطلب الجغرافيا السياسية، بمفهومها الدقيق، فهماً واضحًا للتوجهات السياسية والجغرافية للدولة. ومن هذا المنطلق، أولت الجمهورية القرغيزية اهتمامًا خاصًا خلال السنوات الأخيرة لإعادة بناء العلاقات مع شركائها التاريخيين وجيرانها القريبين. وقد أفضى الانتهاء من ترسيم الحدود في آسيا الوسطى، والذي تطلّب إرادة سياسية وتنازلات متبادلة، إلى إعلان قادة المنطقة بأن آسيا الوسطى أصبحت "منطقة للسلام والصداقة الدائمة". إلا أن الحفاظ على هذا التوجه يتطلب تعاونًا مستمرًا بين الشعوب الشقيقة في ظل حالة عدم الاستقرار العالمي.

وتتولى الجمهورية القرغيزية هذا العام رئاسة عدد من المنظمات الدولية مثل منظمة معاهدة الأمن الجماعي ومجلس التعاون التركي، فيما ستتسلّم في خريف عام 2025 رئاسة منظمة شنغهاي للتعاون. وتواصل بشكيك، من خلال هذه الأطر، الدفاع عن مصالحها الوطنية، وتعزيز التعاون الأمني والاقتصادي مع الحلفاء والشركاء الاستراتيجيين. وقد بدأت آثار هذا التعاون الإيجابي تظهر بوضوح، حيث يشهد مستوى المعيشة في الجمهورية نموًا تدريجيًا مستقرًا، وتتحسن البنية التحتية الاجتماعية، ويجري تنفيذ مشاريع الإسكان على نطاق واسع، لا سيما ضمن برنامج الرهن العقاري التفضيلي. كما انطلقت أعمال إنشاء سكة الحديد العابرة للقارات التي تربط بين الصين وقرغيزستان وأوزبكستان، ويُنتظر تنفيذ مشروع سد "كامبار آتا - 1" بالتعاون مع الدول المجاورة.

تتخذ الجمهورية القرغيزية موقفًا براغماتيا قائمًا على الشراكة الفعلية مع من يترجم وعوده إلى إنجازات ملموسة، بما يخدم المصالح الوطنية المشتركة.

آسيا الوسطى، الواقعة على مفترق طرق طريق الحرير الجديد، تتحول إلى مركز للطاقة الخضراء، ومركز لوجستي إقليمي، ومنطقة صناعية واسعة. ويعود النمو الملحوظ في مختلف القطاعات الاقتصادية إلى النهج البراغماتي الذي تتبعه السياسة الخارجية القرغيزية، فضلًا عن الجهود الدبلوماسية المكثفة التي تبذلها القيادة العليا في البلاد، برئاسة الرئيس صادر جاباروف.

وفي هذا الصدد، أشار مدير معهد البحوث السياسية، الدكتور في التاريخ، إيسين أوسوبالييف، إلى أن نجاحات السياسة الخارجية للجمهورية القرغيزية جاءت نتيجة نهج براغماتي في الدفاع عن المصالح الوطنية، وسياسة خارجية شفافة ومستقرة.

وأوضح أن "النشاط المتزايد للجمهورية القرغيزية على الساحة الخارجية، سواء من خلال تعزيز العلاقات الثنائية مع الشركاء الاستراتيجيين، أو على المستوى الإقليمي والدولي، هو استجابة منطقية للتغيرات العميقة في المشهد السياسي الدولي. فالعالم يشهد تحولات بنيوية تشمل بناء نظام عالمي جديد، وتطوير منظومة أمن إقليمي ودولي، وتنفيذ مشاريع اقتصادية وتجارية وطاقة ونقل على مستوى القارة الأوراسية، وكل ذلك يجعل من قرغيزستان عنصرًا فاعلًا في صلب هذه المتغيرات".

ومنذ عام 2023، خضعت السياسة الخارجية للجمهورية لاختبارات جدية، حيث تحوّلت البلاد إلى محور للأحداث الإقليمية والدولية، من خلال استضافة قمم عدة مثل "آسيا الوسطى – الاتحاد الأوروبي" في شولبان-آتا، وقمة رؤساء دول رابطة الدول المستقلة، واجتماعات حكومات منظمة شنغهاي للتعاون، والمجلس الحكومي الأوراسي، والجمعية البرلمانية لرابطة الدول المستقلة.

وأشار أوسوبالييف إلى أن السياسة الخارجية النشطة للبلاد لم تعد تقتصر على التكامل الاقتصادي في إطار الاتحاد الاقتصادي الأوراسي، ومنظمة شنغهاي للتعاون، ورابطة الدول المستقلة، بل امتدت إلى القضايا الأمنية الدولية، بما في ذلك المواقف المعلنة بشأن القضية الفلسطينية والصراع بين الهند وباكستان. وقد دعا الرئيس صادر جاباروف، في بيانٍ له، الأطراف إلى "منع التصعيد والعودة إلى طاولة المفاوضات".

وأضاف أن قرغيزستان، بعد أن كانت تفتقر إلى مواقف واضحة إزاء القضايا الإقليمية والدولية، أصبحت اليوم من أكثر الدول نشاطًا على الساحة الدبلوماسية في آسيا الوسطى، وتسعى إلى لعب دور أكبر في المنظومة الدولية من خلال استراتيجية ديناميكية تحقق نجاحات ملموسة.

وعلى صعيد الأمن الإقليمي، تظل منظمة معاهدة الأمن الجماعي ضامنًا رئيسيًا للاستقرار في المنطقة. وتتولى قرغيزستان هذا العام رئاسة الأجهزة القيادية للقوات المشتركة. وأفاد مكتب المنظمة لوكالة "كابار" بأن بشكيك باشرت بفعالية بتنفيذ برنامج الرئاسة لهذا العام.

وأشادت المتحدثة باسم الأمانة العامة للمنظمة، ناتاليا خاريتونوفا، بجهود قرغيزستان في الإعداد لاجتماعات وزراء الدفاع والخارجية وأمناء مجالس الأمن ورؤساء برلمانات الدول الأعضاء، والمقرر عقدها في مايو ويونيو من هذا العام في قرغيزستان، إلى جانب تنظيم مؤتمر دولي حول الأمن السيبراني.

كما نوّهت بالمشاركة الفعالة للجمهورية في تنظيم المؤتمر العلمي-العملي الدولي، بمناسبة الذكرى الثمانين للنصر في الحرب الوطنية العظمى، والذي أُقيم في موسكو في 24 أبريل، مؤكدة التزام بشكيك بتنفيذ البرنامج الحكومي المشترك بشأن تعزيز الحدود الطاجيكية-الأفغانية.

واختتمت خاريتونوفا بالتأكيد على أن قرغيزستان ستنظّم اجتماعات المنظمة على أعلى مستوى، وستنفذ جميع أولويات الرئاسة المعلنة لهذا العام.

ومن المقرر أن تستضيف العاصمة بشكيك قمة رؤساء دول منظمة معاهدة الأمن الجماعي في خريف هذا العام، يعقبها تسلّم قرغيزستان رئاسة منظمة شنغهاي للتعاون من الصين. ويرى الخبراء أن هذين الحدثين سيكون لهما دور محوري في ترسيخ أسس علاقات دولية من نوع جديد، تقوم على الشراكة المتكافئة، والتنمية الاقتصادية متعددة المستويات، والتجارة المتبادلة، والأمن غير القابل للتجزئة. ومن بين التحولات الجيوسياسية الجارية، تبرز ملامح نظام عالمي جديد، وللمرة الأولى، لا تقف قرغيزستان على الهامش، بل تشارك بفعالية في رسم ملامحه.